2025-10-16 - الخميس

حول جائزة نوبل في الطب لعام 2025.. عشرة كاملة

{title}

في زحمة المقررات الإكلينيكية، نميل كثيراً إلى اعتبار العلوم الأساسية مرحلة عابرة… لكنها في الحقيقة هي لغة الطب الأصيلة، ومن يتقنها يفهم الجسد لا كآلة، بل كنظام مذهل من التوازن والدقة. فالذين فازوا بجائزة نوبل هذا العام لم يكونوا في غرف العمليات، بل في مختبرات تبحث في جيناتٍ صغيرة وخلايا صامتة… لكنهم غيّروا فهمنا للمناعة، وفتحوا آفاقاً لعلاج السرطان وزراعة الأعضاء.

ولذلك أيها الأعزاء ... نصرخ إليكم يحيى الذكاء! وخصوصاً حين تستثمروه في الأساسيات قبل التخصصات السريرية، فكل إبرة وكل علاج يبدأ بفكرة خلية، ووراء كل تقدم سريري فهم بسيط لحركة أيون أو جين و الطبّ العظيم الذي نعرفه اليوم لا يُمارَس فقط باليد… بل يُبنى بالفكر.

(1)

مُنحت الجائزة هذا العام لكلٍّ من (ماري برانكو، فريد رامسديل، وشيمون ساكاغوشي) لاكتشافهم كيف “تتسامح” المناعة قبل أن تقتل صاحبها. فقد كشفوا آلية التسامح المناعي الطرفي -كيف يعرف الجهاز المناعي متى يتوقف عن القتال ضد نفسه، وكيف يحمي الجسد من أن يصبح ساحة حربٍ ضد خلاياه وأنسجته، خصوصاً في أمراض المناعة الذاتية التي ازدادت شيوعاً في عصر قلت فيه العدوى الجرثومية.وكأن جهاز المناعة يبحث عن “عدوٍّ” حتى لو كان الجسد نفسه.

(2)

ولم يأتِ هذا الاكتشاف من الصفر؛ فقد وُصفت ملاحظات مبكرة عن خلايا ذات دور منظم للمناعة منذ سبعينيات القرن الماضي، لكن الغموض كان يلفّ وظيفتها حتى تمكّن هؤلاء العلماء من تحديد الهوية الجزيئية الدقيقة لهذه الخلايا — الخلايا التائية التنظيمية (Regulatory T Cells) لكن وظيفتها كانت غامضة ومثار جدلٍ علمي لسنوات، حتى تمكّن هؤلاء العلماء من تحديد هويتها الجزيئية بدقة وربطها بالجين FOXP3 الذي أصبح كلمة السر في “ضبط النفس المناعي”.

(3)

يمكن النظر إلى هذه الخلايا بمثابة “ضمير المناعة” الذي يكبح اندفاعها ويحافظ على التوازن بين الدفاع والدمار. أما الجين FOXP3 فهو المفتاح الجيني لهذا الضمير، وبدونه يتحول الجهاز المناعي إلى وحشٍ يهاجم خلايا الجسد.

(4)

هذا الاكتشاف لم يضف سطراً في كتب المناعة فحسب، بل فتح فصلاً جديداً في فهم أمراض المناعة الذاتية، وزراعة الأعضاء، والعلاج المناعي للسرطان. وسيفتح هذا الفهم الباب لتدخلات دوائية وبيولوجية دقيقة، تعيد التوازن إلى المناعة بدل قمعها الكامل كما في كثير من العلاجات الحالية.

(5)

منذ تأسيسها عام 1901، تُمنح جائزة نوبل في الطب أو الفسيولوجيا للاكتشافات التي تفسر آليات الحياة الأساسية، لا للتطبيقات السريرية المباشرة. ولذلك نرى أن معظم الجوائز تذهب إلى علوم مثل المناعة، الوراثة، الأعصاب، والكيمياء الحيوية، إذ إن نحو 85٪ منها كانت لاكتشافات أساسية Basic science ، وأقل من 20٪ لأعمال سريرية.

(6)

فلسفة الجائزة أن من يغيّر فهمنا للمرض يُنقذ ملايين بعده ولذلك صارت التركيز أكثر على الأمور النظرية التي تسبق انفجارات تطبيقياً هائلاً في مجالات متعددة. فنادراً ما كانت تُمنح الجائزة لاكتشافات تطبيقية مثل الأنسولين (1923) و البنسلين (1945) و جرثومة المعدة الحلزونية (2005) و والعلاج المناعي للسرطان (2018). فالطب السريري يُنقذ اليوم، لكن العلم الأساسي يُنقذ المستقبل.

(7)

وربما تكمن أهمية هذا الاكتشاف في أنه يعيد تعريف “القوة” داخل الجسد. فالقوة ليست في اندفاع جهاز المناعة ولا في شدة هجومه، بل في قدرته على التوقف في الوقت المناسب. التوازن هو سر البقاء، والمناعة التي لا تعرف الرحمة تتحول إلى مرض.

(8)

كما أن هذا العمل يُعد نموذجًا للعِلم التراكمي: فكرة بدأت كملاحظة في السبعينيات، ثم تطورت مع الطفرات التقنية في علم الوراثة والجينات في التسعينيات، حتى تمكّن العلماء من عزل الجين FOXP3 عام 2001 وتأكيد دوره في ضبط الجهاز المناعي. هكذا تتجسد فلسفة نوبل — لا مكافأة للحظ، بل تقدير لعقود من المثابرة.

(9)

الاكتشافات من هذا النوع تفتح الباب لعصر جديد من الطب الموجّه دقيق الاستهداف (Precision Medicine) حيث يمكن التلاعب بمفاتيح جينية كـ FOXP3 لضبط المناعة بدقة، دون إخمادها بالكامل كما في العلاجات التقليدية. إنها نقلة من “إطفاء النار” إلى “ترويضها”.

(10)

جائزة هذا العام تذكّرنا أن الطب ليس قتالاً مع المرض، بل حوارًا مع الجسد.

وأن أعظم ما نتعلمه من المناعة… أن الرحمة أيضاً آلية بقاء.

  • د. محمد حسان الذنيبات - استشاري أمراض وزراعة الكلى وضغط الدم