عمار البنا: 90% من أسباب اضطراب التوحد تعود لأسباب جينية
تُعتبر الحياة من منظور الأشخاص الذين يعانون من التوحد مختلفة تمامًا، حيث يمتلك كل فرد «طيفه» الخاص الذي يميز تجربته عن الآخرين. على الرغم من التحديات النفسية والاجتماعية التي يواجهونها، خاصة فيما يتعلق بصعوبات التواصل الاجتماعي والاستجابة للمثيرات الحسية، فإن وجود الدعم المناسب والوعي المجتمعي الكافي باضطراب طيف التوحد يمكن أن يسهم بشكل كبير في تقليص الفجوة بينهم وبين محيطهم.
أكد الدكتور عمار البنا، مدير مستشفى الأمل للصحة النفسية واستشاري الطب النفسي للأطفال والمراهقين، في حديث خاص مع منصة «عرب كاست»، أن التوحد ليس مرضًا كما يعتقد البعض، بل هو اضطراب في نمو الدماغ لدى الطفل، حيث تختلف المسارات العصبية التي تتحكم في التفاعل الاجتماعي والتواصل اللفظي وغير اللفظي عن الأطفال الآخرين.
وأشار إلى أن السبب الرئيسي وراء هذا الاضطراب يعود إلى عوامل جينية بنسبة تصل إلى 90%، مشددًا على ضرورة التوقف عن استخدام مصطلح «المرض» عند وصف التوحد، نظرًا لما يحمله من دلالات سلبية تؤثر على نظرة المجتمع، وكذلك على نظرة الأسرة للطفل.
وأضاف أن بعض الأفراد والجهات، الذين يفتقرون إلى الفهم العلمي الدقيق للاضطراب، يستخدمون مصطلحات غير دقيقة عند الحديث مع أولياء الأمور، مثل «إصابة الطفل بمرض التوحد»، مما يعزز الخوف والوصمة بدلاً من نشر الفهم والدعم.
وذكر البنا أن نسبة التوحد في العالم العربي تتقارب مع النسب العالمية، حيث تبلغ حوالي 1 من كل 31 طفلًا، مشيرًا إلى أن هناك ارتفاعًا ملحوظًا في عدد الحالات المشخصة خلال السنوات الأخيرة.
وأرجع هذا الارتفاع إلى زيادة الوعي المجتمعي وتوسع برامج الكشف المبكر، ومن بينها برنامج المسح النمائي الوطني المطبق في النظام الصحي لدولة الإمارات. وأكد أن هذا التوجه يُعتبر مؤشرًا إيجابيًا، لأنه يمكّن من التدخل المبكر، ويزيد من فرص تطوير مهارات الأطفال وتحسين جودة حياتهم، بدلاً من التأخر في التشخيص الذي قد يؤدي إلى تفاقم التحديات السلوكية والتعليمية.
كما وصف لحظة تشخيص الطفل بالتوحد بأنها من أصعب اللحظات على الأهل، خاصة عندما لا تكون لديهم خلفية كافية عن طبيعة الاضطراب. وأوضح أن أعراض التوحد غالبًا ما تبدأ بالظهور في عمر مبكر، تحديدًا بين السنة والسنة والنصف، إلا أن متوسط عمر التشخيص يكون عادة بين 4 و5 سنوات، وهو وقت متأخر نسبيًا. وأضاف أن أهم الأعراض تشمل: قلة التفاعل الاجتماعي، وعدم استخدام الإيماءات أو التواصل غير اللفظي بالشكل المتوقع في تلك المرحلة العمرية.
وشدد على أهمية اللجوء إلى طبيب الأطفال فور ملاحظة الأعراض، لتوجيه الأسرة بشكل مناسب، سواء تأكدت الإصابة بالتوحد أو ثبت وجود صعوبات أخرى، مثل اضطراب فرط الحركة، أو تأخر النطق أو صعوبات التعلم.
كما أكد على أهمية إعطاء الوالدين الوقت الكافي لشرح التشخيص، ومتابعة استجاباتهما النفسية والعاطفية، وهو ما يُعتبر جزءًا من المسؤولية الأخلاقية للطبيب.
وتحدث مدير مستشفى الأمل للصحة النفسية عن التبعات النفسية والاجتماعية التي قد تتعرض لها الأسرة بعد تشخيص طفلها بالتوحد، خاصة الأسر التي لديها تاريخ نفسي سابق من الاكتئاب أو القلق. وقال إن التشخيص قد يتحول إلى عبء نفسي ضاغط على أحد الوالدين أو كليهما، وقد يؤدي إلى خلافات زوجية على المدى الطويل، في حال غاب التوازن في رعاية الطفل المشخص بالتوحد. وأشار إلى وجود دراسات تشير إلى ارتفاع معدلات الطلاق بين الأزواج الذين لديهم أبناء من ذوي التوحد مقارنة بغيرهم، نتيجة الضغط المستمر، والتركيز الزائد على الطفل المصاب دون موازنة، مما قد يقلل من نسبة الاهتمام ببقية أفراد الأسرة.
وأوصى بتوفير الدعم النفسي للأهل، ومساعدتهم في إعادة توزيع الأدوار والمهام بشكل متوازن، وعدم التردد في طلب المساعدة من أفراد العائلة الممتدة. وشدد على أن منح الأهل فترات من الراحة أو «الانسحاب المؤقت» من المسؤوليات لا يعني الإهمال، بل هو ضروري للحفاظ على التوازن النفسي للأسرة، مؤكدًا أهمية تهيئة الطفل مسبقًا في حال تغيّب الأهل لفترة غير اعتيادية، حتى لا يشعر بالقلق أو الانفصال.
وحول التجربة الحسية لذوي التوحد، أوضح البنا أن كثيرًا من الأطفال والبالغين المصابين بالتوحد يعانون من فرط الحساسية تجاه الأصوات أو اللمس أو الإضاءة. وذكر أن بعض البالغين وصفوا شعورهم عند سماع الأصوات العالية وكأنهم يرتدون سماعات تُصدر ضجيجًا مؤلمًا، مما يجعل تلك الأصوات مرهقة نفسيًا بدرجة يصعب على الآخرين تخيلها.
وأضاف أن البيئة اليومية، مثل الصف الدراسي أو أماكن الانتظار العامة، قد تكون مرهقة لذوي التوحد، بسبب تراكم المثيرات الحسية، مثل صوت المعلم، وأحاديث الزملاء، والضوء الساطع، وحتى صوت الكتابة بالقلم على الورق. وأشار إلى ضرورة تهيئة بيئات صديقة لذوي التوحد تراعي هذه الجوانب الحسية التي قد تكون معيقة لتفاعلهم أو قدرتهم على التعلم.
ومن أكثر المفاهيم الخاطئة التي أشار إليها البنا، الاعتقاد أن الأشخاص من ذوي التوحد يفتقرون إلى المشاعر أو هم «عديمو الإحساس». وقال: «أطفال وكبار التوحد عاطفيون جدًا، ولديهم قدرة على التعاطف، لكنهم يجدون صعوبة في التعبير عن مشاعرهم». أوضح أن الفجوة ليست في الإحساس، بل في القدرة على ترجمة المشاعر إلى سلوك واضح يفهمه الآخرون، وهو ما يؤدي إلى إساءة فهمهم في كثير من الأحيان.