يُعد ارتفاع الكوليسترول من أكثر المشكلات الصحية انتشارًا في العالم، ورغم خطورته الكبيرة، فإنه غالبًا ما يتسلل بصمت دون أن يترك أي أعراض واضحة. هذا الصمت الطبي هو ما يجعل المرض خبيثًا بحق، إذ يؤدي مع مرور الوقت إلى انسداد الشرايين، وارتفاع خطر الإصابة بالنوبات القلبية والسكتات الدماغية، دون سابق إنذار.
ورغم التطور الكبير في الأدوية الخافضة للكوليسترول، إلا أن الأطباء يؤكدون أن العلاج الدوائي وحده لا يكفي ما لم يصاحبه تغيير جذري في نمط الحياة. إذ إنّ النظام الغذائي، والنشاط البدني، والعادات اليومية، جميعها عوامل حاسمة في السيطرة على الكوليسترول والحفاظ على صحة القلب والأوعية الدموية.
الطعام.. الجاني الأول والحلّ الأهم
يُجمع خبراء التغذية على أن النظام الغذائي هو العامل الأكثر تأثيرًا في ارتفاع مستويات الكوليسترول في الدم. فالإكثار من الدهون المشبعة والوجبات السريعة والمقالي يرفع من نسبة الكوليسترول الضار (LDL)، في حين أن اعتماد نظام غذائي متوازن يمكن أن يُحدث فارقًا ملحوظًا في فترة قصيرة.
ويؤكد الأطباء أن أفضل طريقة للوقاية تبدأ من المطبخ. إذ يُنصح بتناول الأطعمة الغنية بالألياف مثل الشوفان، الحبوب الكاملة، الفاصوليا، المكسرات، والفواكه الطازجة، مع تجنب الأطعمة المصنعة والغنية بالدهون المهدرجة. كما يُفضل إعداد الوجبات في المنزل باستخدام الزيوت النباتية الصحية وتجنب الأطعمة غير الموسمية.
إلى جانب ذلك، يلعب تنظيم الوجبات دورًا مهمًا، فالقفز عن وجبة الفطور أو الغداء يؤدي إلى اضطراب في معدل السكر والدهون في الدم. وينصح الأطباء بتقسيم الوجبات على مدار اليوم، وتناول كميات صغيرة بانتظام للحفاظ على استقرار مستوى الطاقة ومنع تراكم الدهون.
الحركة دواء.. والجلوس الطويل خطر صامت
أظهرت دراسات عديدة أن قلة النشاط البدني ترتبط ارتباطًا وثيقًا بارتفاع الكوليسترول وأمراض القلب. فالأشخاص الذين يمارسون التمارين بانتظام يتمتعون بمستويات أعلى من الكوليسترول الجيد (HDL) الذي يحمي الشرايين من التصلب.
ويُنصح بممارسة النشاط البدني المعتدل مثل المشي، السباحة، ركوب الدراجة أو اليوغا لمدة لا تقل عن 150 دقيقة أسبوعيًا. فحتى نصف ساعة من الحركة اليومية يمكن أن تقلل بشكل ملموس من مخاطر تصلب الشرايين والسمنة المفرطة.
الوزن الزائد والتدخين.. شركاء الكوليسترول في الجريمة
السمنة والتدخين هما أبرز أعداء القلب. فزيادة الوزن تُضاعف خطر تراكم الدهون داخل الشرايين، بينما يؤدي التدخين إلى خفض مستوى الكوليسترول الجيد (HDL) ورفع الضار (LDL)، مما يُسرع انسداد الأوعية الدموية.
ويشير الأطباء إلى أن حتى التدخين السلبي له تأثير سلبي مباشر على مستويات الكوليسترول. لذلك، فإن الإقلاع عن التدخين وتجنّب الكحول المفرط يمثلان خطوات أساسية لاستعادة توازن الجسم وحماية القلب.
تأثير الحالة النفسية والسعادة على الكوليسترول
رغم أن العلاقة بين الحالة النفسية وصحة القلب قد تبدو غريبة للبعض، إلا أن العلم الحديث أثبت أن العقل السعيد هو دواء للقلب. فمشاعر الرضا والضحك تخفض هرمونات التوتر وتُحسّن الدورة الدموية.
بضع لحظات من الفرح يوميًا — سواء عبر مشاهدة عرض كوميدي أو لقاء الأصدقاء — يمكن أن تُحدث فرقًا ملموسًا في صحة القلب وتوازن الهرمونات المرتبطة بالدهون.
فيتامينات ب.. السلاح الخفي ضد تصلب الشرايين
في بحث جديد أجرته جامعة روسية ونشره موقع MedikForum، أوضح طبيب القلب أوليج فارفولومييف أن نقص فيتامينات ب12 وب6 وب9 من أكثر العوامل التي تؤدي إلى تصلب الشرايين، وهي الحالة التي تُسبب انسداد الأوعية الدموية باللويحات الدهنية.
تعمل هذه الفيتامينات على تكسير حمض أميني يُعرف باسم الهوموسيستين، وهو مركب يؤدي ارتفاعه إلى تلف جدران الشرايين وزيادة احتمالية الجلطات. وعندما يقل مستوى فيتامينات ب في الجسم، ترتفع مستويات هذا الحمض إلى حد خطر، مما يمهد الطريق أمام أمراض القلب والسكتات الدماغية.
ويؤكد الأطباء أن تعويض نقص فيتامين ب12 يجب أن يتم بسرعة، إذ إن استمرار النقص لفترة طويلة قد يؤدي إلى تلف لا يمكن عكسه في الجهاز العصبي والأوعية الدموية.
الطعام والجلطات.. قائمة مخفية من المحفزات
حذّرت خبيرة التغذية فاسيليسا بونوماريفا من أن بعض الأطعمة الشائعة — خاصة المقلية في الزيوت النباتية — قد تُحفّز الالتهابات داخل الجسم وتُسرّع تكوين الجلطات الدموية.
ومن أبرز هذه الأطعمة: النقانق، الدجاج المقلي، رقائق البطاطس، الكوكيز، والخبز المحمص. وأوضحت الخبيرة أن تسخين الزيوت النباتية يغيّر تركيبها الكيميائي ويجعلها أكثر ضررًا، إذ تُنتج مركبات مؤكسدة تؤدي إلى تصلب الشرايين وتلف جدرانها.
تقول بونوماريفا: "مع مرور الوقت، يؤدي الإفراط في تناول الأطعمة المقلية إلى زيادة الكوليسترول الضار وتقليل المرونة في الأوعية الدموية، وهي بيئة مثالية لتكون الجلطات."
مؤشرات غير متوقعة.. الشعر والجلد يكشفان الخطر
من العلامات الصامتة التي قد تُشير إلى ارتفاع الكوليسترول تساقط الشعر في الساقين أو القدمين. وأوضح طبيب القلب فارفولومييف أن السبب يعود إلى ضعف تدفق الدم إلى الأطراف نتيجة تضيق الشرايين، وهو ما يُعرف طبيًا باسم نقص تروية الأطراف الحرجة (CLI).
وتترافق هذه الحالة مع علامات أخرى مثل جفاف الجلد، الشعور بالبرودة، آلام حارقة في الساقين حتى أثناء الراحة، إضافة إلى تقرحات يصعب التئامها. وفي الحالات المتقدمة، قد تؤدي إلى الغرغرينا وفقدان الأنسجة.
لذلك ينصح الأطباء بمراجعة الطبيب فور ملاحظة تساقط الشعر في مناطق محددة من الساقين، أو تغير لون الجلد إلى شاحب أو لامع، إذ قد تكون هذه إشارات مبكرة على انسداد الشرايين.
التغذية الوقائية
تشير الطبيبة العامة تاتيانا زاخاروفا إلى أن بعض الأطعمة تمتلك قدرة طبيعية على خفض الكوليسترول الضار، بفضل احتوائها على مركب الجلوكورافانين، الذي يتحول في الجسم إلى مادة فعالة تُعرف باسم السلفورافان.
هذا المركب - الموجود في البروكلي والقرنبيط وبراعم الخضروات — يساعد على تنظيم عملية التمثيل الغذائي، ويمنع إنتاج الكوليسترول الزائد داخل الخلايا. كما يُعد من أقوى مضادات الأكسدة التي تحمي من السرطان وتُقلل الالتهاب.
وأضافت زاخاروفا أن تناول ثمرة أفوكادو واحدة يوميًا لمدة ستة أشهر يمكن أن يخفض الكوليسترول الضار بشكل ملحوظ، استنادًا إلى نتائج دراسة سريرية حديثة.
كيف يمكن كبح الكوليسترول بطرق طبيعية؟
يوصي الأطباء بمجموعة من الإجراءات اليومية البسيطة لكنها فعّالة، من أبرزها:
- الالتزام بنظام غذائي متوازن قائم على الخضروات والحبوب الكاملة.
- تقليل استهلاك اللحوم الحمراء والمقالي.
- شرب الماء بكثرة للمساعدة في التخلص من الدهون الزائدة.
- النوم الكافي للحفاظ على توازن الهرمونات المسؤولة عن التمثيل الغذائي.
- إدارة التوتر عبر التأمل أو التنفس العميق أو الهوايات المريحة.
الخلاصة
ارتفاع الكوليسترول لا يُعلن عن نفسه بأعراض واضحة، لكنه يترك بصماته على الجسم بصمت - من الشعر إلى الجلد، ومن الأوعية الدموية إلى المزاج النفسي. إلا أن الوقاية ليست مستحيلة. فاتباع نظام غذائي صحي، والنشاط المنتظم، وتعويض نقص الفيتامينات، والابتعاد عن التدخين والكحول، كفيلة بجعل القلب في مأمن من خطر الانسداد المفاجئ.
إنها معركة هادئة بين الإنسان وصحته، لا يُكسبها الدواء وحده، بل أسلوب الحياة الواعي.